فصل: الضرب الثاني: الاكتفاء بالسبب عن المسبب، وبالمسبب عن السبب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.الايجاز بالحذف:

أما الإيجاز بالحذف فإنه عجيب الأمر شبيه بالسحر، وذاك أنك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون مبينا إذا لم تبين، وهذه جملة تنكرها حتى تخبر وتدفعها حتى تنظر.
والأصل في المحذوفات جميعها على اختلاف ضروبها أن يكون في الكلام ما يدل على المحذوف فإن لم يكن هناك دليل على المحذوف فإنه لغو من الحديث لا يجوز بوجه، ولا سبب ومن شرط المحذوف في حكم البلاغة أنه متى أظهر صار الكلام إلى شيء غث لا يناسب ما كان عليه أولاً من الطلاوة والحسن، وقد يظهر المحذوف بالإعراب: كقولنا: وسهلا، فإن نصب الأهل والسهل يدل على ناصب محذوف، وليس هذا من الحسن ما للذي لا يظهر بالإعراب، وإنما يظهر بالنظر إلى تمام المعنى، كقولنا: فلان يحل ويعقد، فإن ذلك لا يظهر المحذوف فيه بالإعراب، وإنما يظهر بالنظر إلى تمام المعنى، أي أنه يحل الأمور ويعقدها، والذي يظهر بالإعراب يقع في المفردات من المحذوفات كثيرا، والذي لا يظهر بالإعراب يقع في الجمل من المحذوفات كثيرا.
وسأذكر في كتابي هذا ما وصل إلي علمه، وهو ينقسم قسمين: أحدهما: حذف الجمل والأخر: حذف المفردات، وقد يرد كلام بعض المواضع ويكون مشتملا على القسمين معا:

.القسم الأول حذف الجمل:

فأما القسم الأول، وهو الذي تحذف منه الجمل، فإنه ينقسم إلى قسمين أيضا: أحدهما حذف الجمل المفيدة التي تستقل بنفسها كلاما، وهذا أحسن المحذوفات جميعها، وأدلها على الاختصار ولا تكاد تجده إلا في كتاب الله تعالى، والقسم الآخر: حذف الجمل غير المفيدة، وقد وردا هاهنا مختلطين، وجملتهما أربعة أضرب:

.الضرب الأول: حذف السؤال المقدر:

ويسمى الاستئناف ويأتي على وجهين:

.الوجه الأول: إعادة الأسماء والصفات:

وهذا يجيء تارة بإعادة اسم من تقدم الحديث عنه، كقولك: أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان، وتارة يجيء بإعادة صفته، كقولك: أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك، وهو أحسن من الأول وأبلغ، لانطوائه على بيان موجب للإحسان وتخصيصه فمما ورد من ذلك قوله تعالى: {آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} والاستئناف واقع في هذا الكلام على: {أولئك} لأنه لما قال: {ألم ذلك الكتاب} إلى قوله: {بالآخرة هم يوقنون} اتجه لسائل أن يقول: ما بال المستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا.

.الوجه الثاني: الاستئناف بغير إعادة الأسماء والصفات:

وذلك كقوله تعالى: {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} فمخرج هذا القول مخرج الاستئناف، لأن ذلك من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه، وكأن قائلا قال: كيف حال هذا الرجل عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه والتسخي لوجهه بروحه؟ فقيل: قيل ادخل الجنة، ولم يقل قيل له لانصباب الغرض إلى المقول لا إلى المقول له مع كونه معلوما، وكذلك قوله تعالى: {يا ليت قومي يعلمون} مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد.
ومن هذا النحو قوله عزوجل: {يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب} والفرق بين إثبات الفاء في سوف كقوله تعالى: {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم} وبين حذف الفاء هاهنا في هذه الآية أن إثباتها وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، وحذفها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون، فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف للتفنن في البلاغة، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف؟ وهو قسم من أقسام علم البيان تكثر محاسنه، فاعرفه إن شاء الله.

.الضرب الثاني: الاكتفاء بالسبب عن المسبب، وبالمسبب عن السبب:

فأما الاكتفاء بالسبب عن المسبب فكقوله تعالى: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر} كأنه قال: وما كنت شاهدا لموسى وما جرى له وعليه ولكنا أوحيناه إليك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة، ودل به على المسبب الذي هو الوحي، على عادة اختصارات القرآن، لأن تقدير الكلام: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى موسى إلى عهدك قرونا كثيرة فتطاول على آخرهم- وهو القرن الذي أنت فيهم- العمر: أي أمد انقطاع الوحي، فاندرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك، وعرفناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى، فالمحذوف إذا جملة مفيدة، وهي جملة مطولة دل السبب فيها على المسبب.
وكذلك ورد قوله تعالى عقيب هذه الآية أيضا: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون} فإن في هذا الكلام محذوفا لولاه لما فهم، لأنه قال: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك} وهذا لا بد له من محذوف حتى يستقيم نظم الكلام، وتقديره: ولكن عرفناك ذلك وأوحينا إليك رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك، فذكر الرحمة التي هي سبب إرساله إلى الناس، ودل بها على المسبب الذي هو الإرسال.
وأما حذف الجملة غير المفيدة من هذا الضرب فنحو قوله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام: {قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا} فقوله: {ولنجعله آية للناس} تعليل معلله محذوف: أي وإنما فعلنا ذلك لنجعله آية للناس، فذكر السبب الذي صدر الفعل من أجله، وهو جعله آية للناس، ودل به على المسبب الذي هو الفعل.
ومما ورد من ذلك في الأخبار النبوية قصة الزبير بن العوام رضي الله عنه والرجل الأنصاري الذي خاصمه في شراح الحرة التي يسقي منها النخل، فلما حضرا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للزبير: «اسق ثم أرسل الماء إلى جارك» فغضب الأنصاري وقال يا رسول الله،، إن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» وفي هذا الكلام محذوف تقديره، أن كان ابن عمتك حكمت له، أو قضيت له، أو ما جرى هذا المجرى، فذكر السبب الذي هو كونه ابن عمته، ودل به على المسبب الذي هو الحكم أو القضاء، لدلالة الكلام عليه.
وأما الاكتفاء بالمسبب عن السبب فكقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} أي: إذا أردت قراءة القرآن فاكتفى بالمسبب الذي هو القراءة عن السبب الذي هو الإرادة، والدليل على ذلك أن الاستعاذة قبل القراءة، والذي دلت عليه أنها بعد القراءة، كقول القائل: إذا ضربت زيدا فاجلس، فإن الجلوس إنما يكون بعد الضرب، لا قبله، وهذا أولى من تأول من ذهب إلى أنه أراد فإذا تعوذت فاقرأ، فإن ذلك قلباً لا ضرورة تدعو إليه، وأيضا فليس كل مستعيذ واجبة عليه القراءة.
وعلى هذا ورد قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} والوضوء إنما يكون قبل الصلاة، لا عند القيام إليها، لأن القيام إليها هو مباشرة لأفعالها من الركوع والسجود والقراءة وغير ذلك، وهذا إنما يكون بعد الوضوء وتأويل الآية إذا أردت القيام إلى الصلاة فاغسل، فاكتفى بالمسبب عن السبب.
وكذلك ورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ» أي: إذا أراد القيام إلى الصلاة، وإنما عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل لأن الفعل مسبب عن الإرادة وهو مع القصد إليه موجود فكان منه بسبب وملابسة ظاهرة.
ومن ذلك قوله تعالى: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} أي: فضرب فانفجرت منه، فاكتفى بالمسبب الذي هو الانفجار عن السبب الذي هو الضرب.

.الضرب الثالث: وهو الإضمار على شريطة التفسير:

وهو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتى به في آخره فيكون الآخر دليلا على الأول.
وهو ينقسم إلى ثلاثة أوجه:

.الوجه الأول: أن يأتي على طريق الاستفهام:

فتذكر الجملة الأولى دون الثانية، كقوله تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} تقدير الآية: أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن أقسى قلبه، ويدل على المحذوف قوله: {فويل للقاسية قلوبهم}.

.الوجه الثاني: يرد على حد النفي والإثبات:

كقوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} تقديره: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعده وقاتل، ويدل على المحذوف قوله: {أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا}.

.الوجه الثالث: أن يرد على غير هذين الوجهين:

فلا يكون استفهاما، ولا نفيا وإثباتا، وذلك كقول أبي تمام:
يتجنب الآثام ثم يخافها ** فكأنما حسناته آثام

وهذا البيت تختلف نسخ ديوانه في إثباته، فمنها ما يجيء فيه:؟ يتجنب الأيام خيفة غيها فكأنما حسناته آثام وليس بشيء لأن المعنى لا يصح به، وكنت سئلت عن معناه وقيل: كيف ينطبق عجز البيت على صدره، وإذا تجنبت الآثام وخافها فكيف تكون حسناته آثاما؟ فأفكرت فيه وأنعمت نظري فسنح لي في القرآن الكريم آية مثله، وهي قوله تعالى: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} وفي صدر البيت إضمار فسر في عجزه، وتقديره أنه يتجنب الآثام فيكون قد أتى بحسنة، ثم يخاف تلك الحسنة، فكأنما حسناته آثام، وهو على طباق الآية سواء.
ومن الإضمار على شريطة التفسير قال أبي النواس:
سُنة العشاق واحدة ** فإذا أحببت فاستكن

فحذف لفظ الاستكانة من الأول، وذكره في الثاني: أي سنة العشاق واحدة، وهي الاستكانة، فإذا أحببت فاستكن، ومن الناس من يقول: فإذا أحببت فستنن وهذا لا معنى له لأنه إذا لم يبين سنة العشاق ما هي فبأي شيء يستن المستن منها، لكنه ذكر السنة في صدر البيت من غير بيان ثم بينها في عجزه.

.الضرب الرابع: ما ليس بسبب ولا مسبب:

ولا إضمار على شريطة التفسير ولا استئناف:
فأما ما حذف فيه من الجمل المفيدة، فكقوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: {قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون وقال الملك ائتوني به} قد حذف من هذا الكلام جملة مفيدة تقديرها: فرجع الرسول إليهم فأخبرهم بمقالة يوسف، فعجبوا لها، أو فصدقوه عليها، وقال الملك ائتوني به، والمحذوف إذا كان كذلك دل عليه دلالة ظاهرة، لأنه إذا ثبتت حاشيتا الكلام وحذف وسطه ظهر المحذوف دلالة الحاشيتين عليه.
وكذلك ورد قوله تعالى في هذه السورة أيضا: {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصرا إن شاء الله آمنين} قد حذف أيضاً من هذا الكلام جملة مفيدة تقديرها: ثم إنهم تجهزوا وساروا إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه.
وقد ورد هذا الضرب في القرآن الكريم كثيرا، كقوله تعالى في سورة القصص: {وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها} في هذا محذوف، وهو جواب الاستفهام، لأنها لما قالت: {هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم} احتاج إلى جواب منتظم بما بعده من رده إلى أمه، والجواب: فقالوا نعم، فدلتهم على امرأة، فجيء بها وهي أمه ولم يعلموا بمكانها، فأرضعته وهذه الجملة الثانية- أعني قوله تعالى: {فرددناه إلى أمه}- تدل على المحذوف، لأن رده إلى أمه لم يكن إلا بعد رد الجواب على أخته ودلالتها إياهم على امرأة ترضعه، ويكفي هذا الموضع وحده لمن تبصر في مواقع المحذوفات وكيفيتها.
ومما يجري على هذا المنهج قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام وقصة الهدهد في إرساله بالكتاب إلى بلقيس: {قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يأيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم} وفي هذا محذوف تقديره: فأخذ الكتاب وذهب به، فلما ألقاه إلى المرأة وقرأته قالت يا أيها الملأ.
ومن حذف الجمل المفيدة ما يعسر تقدير المحذوف منه، بخلاف ما تقدم، ألا ترى أن الآيات المذكورة كلها إذا تأملها المتأمل وجد معانيها متصلة من غير تقدير للمحذوفات التي حذفت منها ثم إذا قدر تلك المحذوفات سهل تقديرها ببديهة النظر، والذي أذكره الآن ليس كذلك، بل إذا تأمله المتأمل وجده غير متصل المعنى، وإذا أراد أن يقدر المحذوف عسر عليه.
فمما جاء منه قوله تعالى: {وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب} فهذا الكلام إذا تأمله المتأمل لم يجده متصل المعنى، ولم يتبين له مجيء ذكر داود عليه السلام ردفا لقوله تعالى: {اصبر على ما يقولون} وإذا أراد أن يقدر هاهنا محذوفا يوصل به المعنى عسر عليه، وتقديره يحتمل وجهين: أحدهما: أنه قال: {اصبر على ما يقولون} وخوفهم أمر معصية الله وعظمها في عيونهم بذكر قصة داود الذي كان نبيا من الأنبياء وقد آتاه الله ما آتاه من النبوة والملك العظيم، ثم لما زل زلة قوبل بكذا وكذا، فما الظن بكم أنتم مع كفركم؟ الوجه الآخر: أنه قال: {اصبر على ما يقولون} واحفظ نفسك أن تزل في شيء مما كلفته من مصابرتهم واحتمال أذاهم واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زل تلك الزلة فلقي من توبيخ الله ما لقي، فهذا الكلام كما تراه يحتاج إلى تقدير حتى يتصل بعضه ببعض، وهو من أغمض ما يأتي من المحذوفات، وبه تنبيه على مواضع أخرى غامضة.
وأما ما ورد من هذا الضرب في حذف الجمل التي ليست بمفيدة فنحو قوله تعالى: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا} هذا الكلام قد حذف منه جملة دل عليها صدره، وهو البشرى بالغلام، وتقديرها ولما جاءه الغلام ونشأ وترعرع قلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوة، فالجملة المحذوفة ليس من الجمل المفيدة.
على هذا النهج ورد قوله تعالى: {ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} وقد حذف من هذا الكلام جملة، إلا أنها غير مفيدة، وتقديرها: فلما رجع موسى ورآهم على تلك الحالة من عبادة العجل قال لأخيه هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني.
وكذلك ورد قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام من سورة النمل: {قال أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل الله ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون} وفي هذا محذوف، وتقديره: فلما جاء به قال نكروا لها عرشها، لأن تنكيره لم يكن إلا بعد أن جيء به إليه، وقد أغنى عن المحذوف صدر الكلام وآخره، وكان ذلك دليلا عليه.
ومما ورد على ذلك شعرا قول أبي الطيب المتنبي:
لا أبغض العيس لكني وقيت بها ** قلبي من الهم أو جسمي من السقم

وهذا البيت فيه محذوف، تقديره: لا أبغض العيس لإنضائي إياها في الأسفار، ولكني وقيت بها كذا وكذا فالثاني دليل على حذف الأول.
وهذا موضع يحتاج فيه استخراجه واستخراج أمثاله إلى فكرة وتدقيق نظر.
ومما يتصل بهذا الضرب حذف ما يجيء بعد أفعل، كقولنا: الله أكبر فإن هذا يحتاج إلى تمام أي أكبر من كل كبير، أو أكبر من كل شيء يتوهم كبيرا، أو ما جرى هذا المجرى، ومثله يرد قولهم: زيد أحسن وجها، وأكرم خلقا، تقديره أحسن وجها من غيره، وأكرم خلقا من غيره أو ما يسد هذا المسد من الكلام.
وعليه ورد قول البحتري:
الله أعطاك المحبة في الورى ** وحباك بالفضل الذي لا ينكر

ولأنت أملأ في العيون لديهم ** وأجل قدرا في الصدور وأكبر

أي: أنت أملأ في العيون من غيرك.

.القسم الثاني: حذف المفردات:

أما القسم الثاني المشتمل على حذف المفردات فإنه يتصرف على أربعة عشر ضرباً:

.الضرب الأول حذف الفاعل:

والاكتفاء في الدلالة عليه بذكر الفعل كقول العرب: أرسلت، وهم يريدون جاء المطر، ولا يذكرون السماء، ومنه قول حاتم:
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ** إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

يريد النفس، ولم يجر لها ذكر وعلى هذا ورد قوله تعالى: {كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق} والضمير في: {بلغت} للنفس، ولم يجر لها ذكر.
وقد نص عثمان بن جني رحمه الله تعالى على عدم الجواز في حذف الفاعل، وهذه الآية وهذا البيت الشعري وهذه الكلمة الواردة عن العرب على خلاف ما ذهب إليه، إلا أن حذف الفاعل لا يجوز على الإطلاق، بل يجوز فيما هذا سبيله، وذاك أنه لا يكون إلا فيما لا يكون إلا فيما دل الكلام عليه، ألا ترى أن التي تبلغ التراقي إنما هي النفس، وذلك عند الموت، فعلم حينئذ أن النفس هي المرادة، وإن كان الكلام خاليا عن ذكرها، وكذلك قول حاتم حشرجت فإن الحشرجة إنما تكون عند الموت.
وأما قول العرب أرسلت وهم يريدون أرسلت السماء فإن هذا يقولونه نظرا إلى الحال، وقد شاع فيما بينهم أن هذه كلمة تقال عند مجيء المطر، ولم ترد في شيء من أشعارهم، ولا في كلامهم المنثور، وإنما يقولها بعضهم لبعض إذا جاء المطر، فالفرق بينها وبين حشرجت وبين: {بلغت التراقي} ظاهر، وذاك أن حشرجت و{بلغت التراقي} يفهم منها أن النفس التي حشرجت، وأنها هي التي بلغت التراقي، وأما أرسلت فلولا شاهد الحال وإلا لم يجز أن تكون دالة على مجيء المطر، ولو قيل في معرض الاستسقاء: إنا خرجنا نسأل الله فلم نزل حتى أرسلت، لفهم من ذلك أن التي أرسلت هي السماء، ولابد في الكلام من دليل على المحذوف، وإلا كان لغوا لا يلتفت إليه.

.الضرب الثاني حذف الفعل وجوابه:

اعلم أن حذف الفعل ينقسم قسمين: أحدهما يظهر بدلالة المفعول عليه، كقولهم في المثل: أهلك والليل، فنصب، أهلك والليل يدل على محذوف ناصب، تقديره: الحق أهلك وبادر الليل، وهذا مثل يضرب في التحذير، وعليه ورد قوله تعالى: {فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها} ومما ورد منه في الأخبار النبوية أن جابرا تزوج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تزوجت؟ قال: ثيبا؛ فقال له: «فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك» يريد فهلا تزوجت جارية، فحذف الفعل لدلالة الكلام عليه.
ومما ورد منه شعرا قول أبي الطيب المتنبي في قصيدته التي يمتدح بها عضد الدولة أبا شجاع بن بويه، ومطلعها:
فدى لك من يُّقصر عن مداكا

وسأذكر الموضع الذي حذف منه الفعل وجوابه لتعلق الأبيات بعضها ببعض، وهي من محاسن ما يؤتى به في معنى الوداع، ولم يأت لغيره مثلها، وهي:
إذا التوديع أعرض قال قلبي ** عليك الصمت لا صاحبت فاكا

ولولا أن أكثر ما تمنى ** معاودة لقلت ولا مناكا

قد استشفيت من داء بداء ** وأقتل ما أعلك ما شفاكا

فأكتم منك نجوانا وأخفي ** هموما قد أطلت لها العراكا

إذا عاصيتها كانت شداداً ** وإن طوعتها كانت ركاكا

وكم دون الثوية من حزين ** يقول له قدومي ذا بذاكا

ومن عذب الرضاب إذا أنخنا ** يقبل رحل تروك والوراكا

يحرم أن يمس الطيب بعدي ** وقد عبق العبير به وصاكا

يحدث مقلتيه النوم عني ** فليت النوم حدث عن نداكا

وما أرضى لمقلته بحلم ** إذا انتبهت توهمه ابتشاكا

ولا أرضى إلا بأن يصغي وأحكي ** فليتك لا يتيمه هواكا

فقوله ولا مناكا فيه محذوف، تقديره: ولا صاحبت مناكا، وكذلك قوله ولا إلا بأن يصغي وأحكي فإن فيه محذوفا، تقديره: ولا أرضى إلا بأن يصغي وأحكي.
أما القسم الأخر، فإنه لا يظهر فيه قسم الفعل، لأنه لا يكون هناك منصوب يدل عليه، وإنما يظهر بالنظر إلى ملاءمة الكلام.
فمما جاء منه قوله تعالى: {وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة} فقوله: {لقد جئتمونا} يحتاج إلى إضمار فعل: أي فقيل لهم لقد جئتمونا، أو فقلنا لهم.
وقد استعمل هذا القرآن الكريم في غير موضع؛ كقوله تعالى: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا} فقوله: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا} يحتاج إلى تقدير الفعل المضمر.
وكذلك ورد قوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} فقوله: {وإن جاهداك} لا بد له من إضمار القول: أي وقلنا إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما.
ومن هذا الضرب إيقاع الفعل على شيئين وهو لأحدهما، كقوله تعالى: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم} وهو لأمركم وحده، وإنما المراد أجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم، لأن معنى أجمعوا من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه، وقد قرأ أبي رضي الله عنه: {فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم} وهذا دليل على ما أشرت إليه، وكذلك هو مثبت في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ومن حذف الفعل باب يسمى باب إقامة المصدر مقام الفعل، وإنما يفعل ذلك لضرب من المبالغة والتوكيد، كقوله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} قوله: {فضرب الرقاب} أصله فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه، وفي ذلك اختصار مع إعطاء معنى التوكيد المصدري.
وأما حذف جواب الفعل فإنه لا يكون في الأمر المحتوم، كقوله تعالى: {فذرهم يخوضوا ويلعبوا} فجزم يخوضوا ويلعبوا لأنهما جواب أمر: {فذرهم} وحذف الجواب في هذا لا يدخل في باب الإيجاز، لأنا إذا قلنا ذرهم أي اتركهم لا يحتاج ذلك إلى جواب، وكذلك ما يجري مجراه وإنما يكون الجواب بالفاء في ماض، كقولنا قلت له اذهب فذهب، وحينئذ يظهر الجواب المحذوف، كقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا} ألا ترى كيف حذف جواب الأمر في هذه الآية، فإن تقديره فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناه تدميرا، فذكر حاشيتي القصة أولها وآخرها لأنهما المقصود من القصة بطولها، أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم.
ومن هذا الضرب قوله تعالى: {قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني أخاف أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب} فجواب الأمر من هذا الكلام محذوف تقديره: فأرسله معهم ويدلنا على ذلك ما جاء بعده من قوله: {فلما ذهبوا به} كما حذف أيضاً من قوله عزوجل: {وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان} الآية، فجواب الأمر من هذا الموضع محذوف وتقديره: فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه، فقال له: يوسف أيها الصديق وكذلك قوله تعالى: {وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه} الآية، ففي هذا الكلام حذف واختصار استغنى عنه بدلالة الحال عليه وتقديره: فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف، فدعا الملك بالنسوة وقال لهن: ما خطبكن.
وهكذا ورد قوله تعالى: {ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} وقد حذف جواب الأمر هاهنا، وتقديره: فأتوه به، فلما كلمه، وفي سورة يوسف عليه السلام محذوفات كثيرة من أولها إلى آخرها.
فانظر أيها المتأمل إلى هذه المحذوفات المذكورة هاهنا التي كأنها لم تحذف من هذا الكلام، لظهور معناها وبيانه، ودلالة الحال عليه، وعلى النحو من ذلك ينبغي أن تكون محذوفات الكلام.